نوع المستند : المقالة الأصلية
المستخلص
الفکر التربوي عند الماوردي من خلال کتابه
أدب الدنيا والدين
إعداد
أ / عزيز بن عوض المالکي
باحث دکتوراره - کلية التربية- جامعة أم القرى
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
وبعد:
يمثل الفکر التربوي الإطار النظري ، لما يحتاجه المجتمع في بناء نظامه وبرامجه التربوية ووضع أسسها وقواعدها ويشير الکيلاني إلى " أن النمو الحضاري والنمو الفکري يسيران جنباً إلى جنب ، وما الفکر التربوي إلاّ نتاج حضارة عريضة ، امتدت على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان وقد استمد قوته وحيويته من الدين واستطاع الفکر التربوي الإسلامي ، أن ينتج الإنسان الصالح القادر على التکيف مع واقعه"() .
وتأتي دراسة الفکر التربوي الإسلامي ، في کل مرحلة من مراحل التاريخ ، " لتمکن الدارس من الوقوف على أفضل الأساليب وأجداها ، في إعادة صياغة عقلية الإنسان المسلم في ضوء التغيرات ، بدلاً من الوقوف جامداً ، حيال ما يجري حوله من أحداث"() .
وعلى الرغم من أن لکل مجتمع من المجتمعات، فکره التربوي الخاص به وأن ما يصلح لمجتمع لا يصلح لآخر، إلا أن المتفحص لمناهجنا التربوية في العالم العربي يجدها - في کثير من جوانبها – متأثرة بالفکر الغربي.
وقد نتج عن ذلک " معاناة الواقع التربوي العربي والإسلامي ، من الازدواجية الخطيرة، الناتجة عن التبعية وفقدان الأصالة والذاتية ، التي ولّدتها العلمانية في جميع مظاهر الحياة واتخذت لها أبعاداً خطيرة ، أدت إلى الثنائية والانشطار في الکيان الاجتماعي والفکري"().
وخروجاً من دائرة التخلف والضعف الحضاري والتراجع في مجال الفکر التربوي، کان لا بد من إعادة النظر في تراثنا الثقافي، لنجد فيه ضالتنا ونستلهم منه عوامل نهضتنا من جديد.
أن لکل مرحلة زمنية، سماتها وعلمائها وفکرها المنبثق عن حرکتها الحضارية والإنسانية والعلمية، حيث لا تخلو حقبة من نمو في حرکة الفکر التربوي الإسلامي، مهما أصابها من الضعف.
وسوف يسلط الباحث الضوء على أحد مفکري العالم الإسلامي وأحد رموزه التربويين وهو الإمام أبو الحسن الماوردي، والذي کان له مؤلفات عديدة متنوعة في العقيدة والفقه واللغة والسيرة والسياسة الشرعية والأخلاق والتربية، وليس بمستغرب أن تجد العديد من الباحثين قد عنوا بمؤلفاته دراسة وتحليلاً، والکشف عن منهج هذا العالم الفاضل وآراؤه القيمة، وأثروا المکتبات الإسلامية بالعديد من المؤلفات العلمية کانت نتائج دراسات وتحقيق لمؤلفات الماوردي، وأبرزت دور علماء المسلمين الأوائل.
ويعتبر الإمام أبو الحسن الماوردي علم من أعلام التربية الإسلامية، ومفکر تربوي له آراء ونظرات في التربية والتعليم جديرة بالاهتمام والدراسة، وکان من أبرز أعماله التربوية کتاب أدب الدنيا والدين، والذي هو محور بحثنا هذا والذي قدم من خلاله تراثاً فکرياً تربوياً، جاء بين سطوره، مختلطاً بآراء وأفکار عديدة ومع ذلک لم يأخذ هذا الکتاب، حقه من الدراسة التربوية إلا ما ندر، في حين أهتم الباحثون بدراسة نتاجه العلمي من خلال کتبه المتعددة.
ومن هنا تمخضت فکرة الدراسة وهي الفکر التربوي عند الإمام أبي الحسن الماوردي، علماً بان الباحث قد أهتم بدراسة کتابه أدب الدنيا والدين، حيث لاحظ غناه بالمضامين التربوية العديدة.
مشکلة الدراسة:
يعتبر کتاب أدب الدنيا والدين للماوردي من أهم کتب التراث الإسلامي القديم الذي تناول الجوانب التربوية - الأدب والأخلاق - حسب مفهوم ذلک العصر.
وقد قام العديد من العلماء والباحثين بدراسة شخصية الإمام الماوردي وآراؤه من خلال کتبه ومصنفاته المتنوعة في مختلف التخصصات ، ومن أهم مصنفات الماوردي التي لم تشبع دراسة وبحثاً کتاب : أدب الدنيا والدين, ذلک الکتاب الذي حوى مجموعة من الآداب والأخلاق التربوية , والذي صنف في القرن الرابع الهجري , ويعد من أول الکتب التربوية إن لم يکن أولها , فله السبق في فنه ومحتواه, ومع ما يحتويه هذا المصنف العظيم من آراء تربوية , إلا أنا نجد أن الباحثين والمحققين لم يعطوا هذا الکتاب حقه من التحقيق والتحليل والاستنباط لما يحويه من آراء تربوية حصينة.
ويحاول الباحث في هذه الدراسة استنباط بعض الآراء التربوية من هذا الکتاب القيم للعالم الفذ الامام أبي الحسن الماوردي رحمه الله تعالى.
تساؤلات الدراسة:
في ضوء ما سبق، يمکن صياغة السؤال الرئيس التالي:
ما الفکر التربوي عند أبي الحسن الماوردي من خلال کتابه أدب الدنيا والدين؟
ويتفرع عن السؤال الرئيس، الأسئلة الفرعية التالية:
ما أبرز معالم العصر الذي عاش فيه أبي الحسن الماوردي؟
ما هي ملامح فکر أبي الحسن الماوردي؟
ما هي وجهة نظر الماوردي للتربية؟
ما نظرة الإمام الماوردي للتعليم والتعلم؟
أهداف الدراسة:
تهدف الدراسة إلى ما يلي:
الوصول إلى معرفة الفکر التربوي لدى أبي الحسن الماوردي.
التعريف بأبي الحسن الماوردي ومعرفة أبرز معالم العصر الذي عاش فيه.
بيان نظرة أبي الحسن الماوردي للتربية وأهدافها والعوامل المؤثرة فيها.
التعرف على وجهة نظر الماوردي للتعلم والتعليم.
أهمية الدراسة:
تکتسب الدراسة أهميتها من خلال ما يلي:
کونها تتناول دراسة شخصية إسلامية تعد من أبرز علماء الشريعة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، والذي استطاع أن يقوم بتوظيف علمه الشرعي في جميع مجالات الحياة الإنسانية والعلوم الإسلامية، والاقتصاد، والسياسة، والتربية، حتى أصبح نتاجه العلمي من المؤلفات القيّمة مصدراً أساسياً للعلماء والباحثين في شتى مجالات العلوم الشرعية والتربوية.
کونها محاولة للکشف عن جوانب فکرية تربوية في تراثنا الإسلامي والتأصيل لها مما يعد خطوة نحو بناء نظرية تربوية إسلامية.
يمکن أن يستفيد من نتائج هذه الدراسة المهتمين بالفکر، والتربية الاسلامية، والقائمين على تأصيل العلوم التربوية.
تفتح الدراسة الطريق أمام الباحثين التربويين، لإجراء المزيد من الدراسات حول کتاب أدب الدنيا والدين للإمام أبي الحسن الماوردي.
افتقار الدراسات البحثية المحکمة لمثل هذه الدراسة والتي تختص ببيان فکر الإمام الماوردي من خلال کتابه أدب الدنيا والدين.
حدود الدراسة:
اقتصر الباحث في دراسته على إبراز جهود وآراء وفکر العالم أبي الحسن الماوردي رحمه الله تعالى من خلال الحدود التالية:
الحدود الزمانية: وتشمل عصر الإمام أبي الحسن الماوردي والذي عاش في الفترة ما بين (364 ه-450 هـ) الحدود الموضوعية: ونقتصر فيها على فکر وآراء الإمام أبي الحسن الماوردي من خلال کتابه التربوي (أدب الدنيا والدين).
مصطلحات الدراسة:
تستخدم الدراسة المصطلح التالي:
الفکر التربوي:
الفکر في اللغة : يعرف بأنه " إعمال الخاطر في الشيء "() , وقيل هو : " إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول "() .
ويقصد بالفکر في الاصطلاح: "اسم لعملية تردد القوى العاقلة المفکرة في الإنسان، سواء أکان قلباً أو روحاً أو ذهناً بالنظر والتدبر، لطلب المعاني المجهولة أو الوصول إلى الأحکام أو النسب من الأشياء"() .
وعرف الفکر التربوي بأنه: "عبارة عن جزء من فکر إنساني مبدع ، يتسم بالديناميکية والتطور المستمر في ميدان التربية ويستند إلى تاريخ المجتمع وفلسفته وثقافته وصفاته وحاجاته"().
کما عرف بأنه: " ما أبدعته عقول الفلاسفة والمربين عبر التاريخ , فيما يخص مجال التعليم الإنساني , وتنمية الشخصية وشحذ قدرتها , ويتضمن النظريات والمفاهيم والقيم والآراء التي وجهت عملية تربية الإنسان عبر العصور "() .
ويُعرف الباحث الفکر التربوي هنا بأنه جملة المفاهيم والآراء والتصورات والمبادئ التربوية المستمدة من الکتاب والسنة والاجتهاد الموافق لروح الإسلام، من خلال إعمال الفکر.
وأما الفکر التربوي عند أبي الحسن الماوردي فيمکن تعريفه إجرائياً بأنه: جملة من المفاهيم والآراء والتصورات المتضمنة في کتاب أدب الدنيا والدين والمتعلقة بخصائص المنهج الإسلامي في التربية والطبيعة الإنسانية والقيم والتغير الاجتماعي والثقافي والأسرة المسلمة کوسيط تربوي وتربية الجماعة المسلمة.
منهج الدراسة:
سوف يقوم الباحث بدراسة سيرة الإمام الماوردي، ودراسة کتابه أدب الدنيا والدين ، وتحليل محتوى هذا الکتاب ، واستنباط أبرز الآراء التربوية للإمام الماوردي في هذا الکتاب , وقد استخدام الباحث المنهج الوصفي، الذي يعرفه أبو سليمان بأنّ "موضوعه الوصف، والتفـسير، والتحليـل، في العلوم الإنسانية من دينية واجتماعية وثقافية، ولما هو کائن من الأحداث التي وقعت لملاحظتها ووصفها وتعليقها وتحليلها، والتأثيرات والتطورات المتوقعة، کما يصف الأحداث الماضية وتأثيرها على الحاضر، ويهتم أيضاً بالمقارنة بين أشياء مختلفة أو متجانسة، ذات وظيفة واحدة أو نظريات مسلمة"().
الدراسات السابقة:
بعد الرجوع إلى مراکز البحوث العلمية والمکتبات الجامعية للبحث عن عنوان لمثل هذه الدراسة لم يقف الباحث على دراسة منشورة أو متاحة للاطلاع.
المبحث الأول: عصر الإمام أبي الحسن الماوردي
أمتاز عصر الماوردي بجوانب عديدة کان لها التأثير البالغ في نبوغه العلمي والفکري، وسوف نستطرد في هذا المبحث عن بعض العوامل التي کان لها أثر واضح على نشأة هذا الإمام الفذ والتي تنحصر في البيئة السياسية، والبيئة الاجتماعية والاقتصادية، والبيئة العلمية والفکرية.
البيئة السياسية:
تميز عصر الماوردي بوجود صراعات وانقسامات سياسية ومذهبية مع ما صاحب ذلک من ذيوع الفتن والاضطرابات، والعبث بسلطـان الخلفاء، ونلاحظ هنا ارتباط السياسة بالتمذهب الديني، حتى إننا نلاحظ ظهور ثلاث دعوات سياسية ودينية، تتمثل في: البويهيون ومثلوا الشيعة في دعوتهم الإمامية، والفاطميون والذين مثلوا الشيعة في دعوتهم الإسماعيلية، والعباسيون الممثلون للمذهب السني.
وقد وقع الخليفة العباسي تحت النفوذ البويهي، "وشهدت بغداد اضطرابات ومذابح بين السنة والشيعة وأصبحت نهباً للصوص والقتلة والغوغاء بسبب الفوضى السياسية وعدم استتباب الامن، وکان هذا طابعا للعصر رغم فترات الهدوء النسبي.
ومع انتهاء العصر البويهي، بدأ عهد السلاجقة الذين دخلوا بغداد عام 447هـ ، ـ وهم سنيون ـ وبدأ عصر سياسي جديد"()، وکذلک تغير الفکر والاتجاهات الفکرية.
وشهد العصر أيضا ازدهار الخلافة الفاطمية في مصر ، "وغدت تشکل خطراً على الخلافة العباسية، بعد أن ظهرت نواياهم نحوها، وهدفوا إلى إسقاطها ، وفعلا استطاعوا دخول دمشق ، إلا أن الفاطميين لم يستطيعوا تحقيق هدفهم في إسقاط الخلافة ودخول بغداد، وفي هذا العصر أيضا سقطت الدولة الفاطمية وانتهى أمرها"() .
ويمکن إيجاز معالم الناحية السياسية في عصر الماوردي فيا يلي:
1- تجزؤ وانقسام الدولة العباسية إلى دويلات:
ومن أشهر الدويلات في هذا العصر الأغالبة، والغزنوية، والفاطمية والبويهية والسلجوقية.
2- ضعف الخلفاء وضياع هيبتهم:
منذ بداية القرن الرابع الهجري، کان الخلفاء العباسيون قد فقدوا السلطة الفعلية في إدارة الدولة، بالرغم من استقرار أحوالهم الشخصية، وقد زاد الأمر خلال النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، والنصف الأول من القرن الخامس الهجري وکان أمر الدولة في يد البويهيين الذين استبدوا بالحکم ووضعوه کله في أيديهم، مما ترتب عليه ضعف مرکز الخلافة العباسية، حتى غدا الخليفة ألعوبة في أيديهم().
البيئة الاجتماعية والاقتصادية:
إن الحالة الاجتماعية والاقتصادية کانت امتدادا لما سبق العصر من عصور سابقة ، من حيث الترکيب الاجتماعي الطبقي، حيث وجدت طبقات اجتماعية مختلفة، " فالطبقة العليا کان يحتلها الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة والولاة، والقضاة، ومن يلحق بهم، ورؤساء التجار وأصحاب الإقطاع من ذوي الأعيان ، أما الطبقة الوسطى فکانت تشتمل على رجال الجيش وموظفي الدواوين والتجار والصناع المهرة، والطبقة الدنيا کانت تشتمل على العامة من الزراع وأصحاب الحرف الصغيرة والخدم والرقيق"() ، وهذا مع اختلاف بين هذه الطبقات في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فکانت الطبقة العليا تعيش في نعيم وترف، أما الطبقة الوسطى فکانت ذات يسر لما کانت تقوم به من نشاط اقتصادي يخدم الطبقة العليا .
أما الطبقة الثالثة فهي طبقة العامة، وهي التي کان يقع عليها عبء العمل کله في الزراعة أو الصناعات الصغيرة أو الخدمة، کانت طبقات کادحة، تعاني معاناة حقيقية ، من غلاء الأسعار وإقفال الأسواق الذي تکرر أکثر من مرة().
يقول ابن کثير عن سنة 373 هـ "و فيها غلت الأسعار ببغداد حتى بلغ الکر() من الطعام إلى أربعة آلاف وثمانمائة ، ومات کثير من الناس جوعا، وجافت الطرقات من الموتى من الجوع ,وفي 382هـ غلت الأسعار حتى بيع رطل الخبز بأربعين درهما والحرز بدرهم"().
وقد أدى هذا - بين العامة - إلى " انتشار الدجل والتخريف وتعلق الناس بالأسباب الموهمة في الحصول على الغنى لعجزهم عن تحصيله بالوسائل المعقولة، فکان الاتجاه إلى التنجيم والاعتقاد في الطوالع التي تسعد وتشقي، والانصراف إلى الکيمياء التي تقلب النحاس والقصدير ذهبا ، والالتجاء إلى دعوات الاولياء لعلها تتحقق فينقلب فقرهم إلى غنى، بالإضافة إلى هذا الاعتقاد في السحر والطلاسم ونحو ذلک"().
البيئة العلمية والفکرية:
ظل التيار العلمي والحضاري - فکريا وماديا - في القرن الرابع الهجري والخامس الهجري سائرا في طريقه لا يعرف التوقف، "ولکن الملاحظ أن مستوى القرن الخامس الهجري کان دون مستوى القرن الرابع الهجري من حيث الابتکار وکمية الإنتاج، وتنوعه في مختلف مجالات الثقافة، فقد أصبح الاتجاه في القرن الخامس الهجري يؤکد على إعادة تنظيم المادة التي تحتويها مؤلفات القرون السابقة بشکل يجعلها أسهل منالاً وأکثر استيعاباً ، وهکذا ظهرت موسوعات التاريخ والأدب واللغة التي جمعت مواد کتب عديدة أسبق في مجالها"().
ويمکن تلخيص البيئة العلمية والفکرية في الأمور التالية:
(1) ازدهار الحرکة الفکرية ووجود نهضة علمية حقيقية، شملت کافة أقطار وأمصار العالم الإسلامي في هذا العصر.
(2) تشجيع الخلفاء والأمراء للعلماء والأدباء والفقهاء.
(3) التحزب المذهبي، مع رکود الفکر السني في أول عصر الماوردي وفي ظل الدولة البويهية وازدهار الفکر الشيعي على حساب الفکر السني.
(4) شيوع التقليد، وتفشي الدعوات الشيعية في العالم الإسلامي، مع ازدهار ملحوظ للدعوة الإمامية، والدعوة الإسماعيلية.
(5) شيوع المناظرات بين الفقهاء وبين علماء الکلام.
(6) استمرار الانفتاح على الثقافات الأجنبية، وفي هذا العصر، کان الأمر قد وصل إلى تغلغلها والتفاعل والانفعال بها، وإن ظهر تأثير الثقافة الفارسية أکثر.
(7) ظهور الدعاوى الدينية المنحرفة، وکرد فعل متطرف للتطرف والتعصب المذهبي، ووصل الأمر إلى إنکار النبوات والرسالات، وهذه إن دلت فإنما تدل على بدء فقدان الروح وسيطرة العقل.
(8) ظهور الجماعات العلمية وتدل کثرة المؤلفات على ازدهار حرکة التأليف، وازدياد حرکة نقل الکتب، مع تنافس العواصم الإسلامية في هذا المجال، وشغف الناس بالعلم على مستوى الخاصة والعامة().
وفي وسط هذا الجو وهذه البيئة عاش الماوردي منتمياً إلى عصره بکله، وعکس فکره کل خصائص عصره.
المبحث الثاني: التعريف بالإمام أبي الحسن الماوردي
نسبه ومولده:
الإمام الماوردي هو" الإمام العلامة، أقضى القضاة، أبو الحسن ، علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي، الشافعي، صاحب التصانيف, وهو أول من لقب بأقضى القضاة في عهد القائم بأمر الله العباسي رحمه الله تعالى، ولد في البصرة سنة أربع وستون وثلاثمائة للهجرة - لم تشر المصادر إلى تحديد اليوم والشهر الذي ولد فيه - توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربع مئة للهجرة ، وقد بلغ ستاً وثمانين سنة "() .
شخصيته العلمية:
تميز الماوردي بسعة علمه وتبحره في جميع فنون العلم، وصنف العديد من المؤلفات في الفقه، والتفسير والأصول، والأدب، ونالت مؤلفاته شهرة واسعة في الأوساط العلمية بسبب سلاسة أسلوبه في التأليف وحسن بيانه، وجمال العرض، وقوة الاستدلال، وحسن الاستنباط.
"برع في الفقه الشافعي ، کان من وجوه فقهاء الشافعية ومن کبارهم، أخذ الفقه عن أبي القاسم الصيمري بالبصرة، ثم عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني ببغداد، وکان حافظاً للمذهب وله فيه کتاب الحاوي الذي لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحّر والمعرفة التامة بالمذهب"().
شيوخه وتلاميذه:
کما هو معلوم أن الماوردي غلبت عليه دراسات الفقه والحديث، بمعنى أنه کان فقيها أصوليا بالدرجة الأولى، ولذا فإن شيوخه کانوا من الفقهاء والمحدثين:
* شيوخه في الفقه:
1- الصيمري: أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري (351هـ - 436هـ) وکان أحد الفقهاء العراقيين، حسن العبارة، جيد النظر، وکان صدوقاً وافر العقل، جميل المعاشرة عارفا بحقوق العلماء. . 2- الإسفراييني: أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني (344هـ - 406هـ) يقول عنه ابن کثير هو إمام الشافعية
3- البافي : عبدالله بن محمد البخاري الشيخ الإمام أبو محمد البافي (ت 398 هـ ) ويذکر ابن الجوزي أنه کان من أفقه أهل وقته على مذهب الشافعي().
* شيوخه في الحديث:
1- الحسن بن على بن محمد الجبلي.
2 - محمد بن عدي بن زحر المنقري.
3- جعفر بن محمد بن الفضل المعروف بابن المارستاني().
* تلاميذه:
1- الخطيب البغدادي، أبو بکر أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد.
2- محمد بن عبد الله بن الحسن أبو الفرج البصري، قاضي البصرة.
3- أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون البغدادي.
4- عبد الملک بن إبراهيم بن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمذاني.
5- محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الريعي الموصلي().
* جهوده العلمية ومؤلفاته:
قبل استعراض أهم مؤلفات الماوردي، أشير إلى أنه لم يُظهر شيئا من تصانيفه – حسب ما ذکره ابن خلکان – قبل وفاته حيث جمع کل تصانيفه في موضع، فلما أحس بدنو أجله قال لشخص يثق فيه: " الکتب التي صنفتها موجودة في المکان الفلاني, وأنا لم أظهرها لأني لم أجد نية إلا نية خالصة لله, فإن عانيت الموت ووقعت في النزع، فاجعل يدي في يدک، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل منه شيئاً منها، فاعمد إلى الکتب وألقها في دجلة ليلاً، وإن بسطت يدي، ولم أقبض على يدک فاعلم أنها قبلت وإني ظفرت بما کنت أرجوه من النية الخالصة ، قال ذلک الشخص: فلما قرب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت کتبه()".
وفيما يلي بيان لأبرز مؤلفات أبي الحسن الماوردي مصنفه حسب الفنون کالتالي:
أولا - الکتب الدينية:
1- النکت والعيون: وهو تفسير القرآن الکريم وحققه خضر محمد خضر، وراجعه عبد الستار أبو غدة.
2- کتاب الحاوي الکبير: في الفقه الشافعي.
3- کتاب الإقناع: في الفقه الشافعي.
4 -کتاب أعلام النبوة: وهو يبحث في إمارات النبوة.
ثانيا - الکتب السياسية:
1- الأحکام السلطانية: فيه حديث عن نظام الحکم.
2- قوانين الوزارة.
3- تسهيل النظر وتعجيل الظفر: وهو کتاب في السياسة أيضا.
4- نصيحة الملوک
ثالثا - کتب في التربية ومنها:
1- أدب الدنيا والدين: الذي يبحث في الأخلاق التي يجب على الإنسان أن يتحلى بها، وهذا الکتاب الذي يعتبر من أفضل الکتب في علوم الأخلاق والتربية قد طبع مرات عديدة ومنها الطبعة التي حققها المرحوم مصطفى السقا، کما حققه محمد فتحي أبو بکر.
2- الرضاع وهو من الکتب المهمة في الفقه الأسري الذي تحتاج إليه الأسرة. . وهکذا يتضح أن الماوردي ألف في مختلف ميادين العلوم والمعرفة ونال ثقة الفقهاء وإعجاب طلاب العلم، مما جعله عظيم القدر والجاه عند السلاطين وأئمة العلوم.
المبحث الثالث: کتاب أدب الدنيا والدين وقيمته التربوية
التعريف بکتاب أدب الدنيا والدين
جمع فيه الکثير من الآداب والأخلاق، وقرر فيه المبادئ الأخلاقية الإسلامية مستدلاً بالآيات الکريمة من القرآن الکريم وبالأحاديث النبوية الشريفة، ثم بأمثال الحکماء، وآداب البلغاء وأقوال الشعراء، وآثار الأولياء والصالحين.
فالکتاب قيَّم، مفيد، نفيس، فريد في بابه، له وقع مؤثر في القلوب، وقد أفاض المؤلف رحمه الله تعالى في الحض على تهذيب الأخلاق، والحث على تطهير النفوس والألباب، وتحليتها بالفضائل والآداب.
والکتاب سماه الماوردي في الأصل کتاب: "البغية العليا في أدب الدين والدنيا، واختصر الاسم وشاع بين الناس بعنوان : کتاب أدب الدنيا والدين"().
کتاب فيه منثور الکلم ومنظومه، وهو يمزج بين تراث العرب وتراث الأمم الأخرى بمادة غزيرة وتلاحم مستمر، حسن الصياغة والسبک مفيد في التربية والأخلاق.
ومع هذه المحاسن التي جمعها في کتابه هذا، إلا أن المحققين وأهل الحديث يأخذون عليه في کتابه أدب الدنيا والدين إيراده لمجموعة من الأحاديث والآثار النبوية بدون تحقيق أو تخريج لها أو بيان السند، وبعد التخريج والتحقيق لها أتضح أن بعضها موضوع والبعض الآخر ضعيف، وليس هذا منهجه في کتبه، بل هو في کتاب الحاوي الکبير يتشدد في معرفة الحديث وبيان صحته، ولعله هنا لا يرى بالتشدد في الأحاديث إذا کانت في فضائل الأعمال.
أبواب الکتاب:
اعتمدت في دراسة کتاب أدب الدنيا والدين ، شرح وتعليق کريم محمد راجح ، طبعة دار اقرأ ، 1405هـ ، وقد قسم الماوردي هذا الکتاب - حسب النسخة التي اعتمدتها في دراستي - إلى ستة أبواب على النحو الآتي():
الباب الأول: في فضل العقل وذم الهوى.
الباب الثاني: باب أدب العلم.
الباب الثالث: باب أدب الدين.
الباب الرابع: باب أدب الدنيا.
الباب الخامس: باب أدب النفس، وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: باب مجانبة الکبر والإعجاب. الفصل الثاني: في حسن الخلق.
الفصل الثالث: في الحياء. الفصل الرابع: في الحلم والغضب.
الفصل الخامس: في الصدق والکذب. الفصل السادس: في الحسد والمنافسة.
الباب السادس: باب آداب المواضعة، وفيه ثمانية فصول:
الفصل الأول: في الکلام والصمت. الفصل الثاني: في الصبر والجزع.
الفصل الثالث: في المشورة. الفصل الرابع: في کتمان السر.
الفصل الخامس: في المزاح والضحک. الفصل السادس: في الطيرة والفأل.
الفصل السابع: في المروءة. الفصل الثامن: في آداب منثورة.
فکر الإمام أبو الحسن الماوردي
* العقل في فکر الماوردي:
العقل من أعظم النعم التي وهبها الله تعالى للإنسان ،وميزه عن سائر الحيوانات ، وأسقط الله تعالى الواجبات والتکاليف عن المجنون وفاقد العقل ، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يکبر وعن المجنون حتى يعقل"(), فبالعقل تعرف حقائق الأمور ، ويفصل بين الحسنات والسيئات.
أقسام العقل عند الماوردي:
قسم الماوردي العقل إلى قسمين:
1- "العقل الغريزي - العقل الحقيقي - وله حد يتعلق به التکليف لا يجاوزه إلى زيادة ، ولا يقصر عنه نقصان ، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان ، فإذا تم في الإنسان سمي عاقلاً ، وخرج به إلى حد الکمال"(),وهذا هو مناط التکليف , والذي إذا فقده الشخص تسقط عنه التکاليف الشرعية.
2- "العقل المکتسب: هو نتيجة العقل الغريزي، وهو نهاية المعرفة وصحة السياسة، وإصابة الفکرة، وليس لهذا حد لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أهمل، ونماؤه يکون بأحد وجهين:
أ- کثرة التجارب وممارسة الأمور.
ب- يکون بفرط الذکاء وحسن الفطنة"().
والعقل المکتسب عند الماوردي يعمل في ضمن نطاق العقل الغريزي وتحت سيطرته، ولا يمکن انفکاکهما عن بعضهما، وقد ينفکان عن بعضهما في بعض الحالات، فيحدث نتيجة لذلک أن يفقد الانسان السيطرة على سلوکه وتصرفاته فيصبح کالأحمق الذي لا توجد حيلة لمداواته.
يقول الماوردي في ذلک : "العقل المکتسب لا ينفک عن العقل الغريزي , لأنه نتيجة منه وقد ينفک العقل الغريزي عن العقل المکتسب ، فيکون صاحبه مسلوب الفضائل موفور الرذائل کالأنوک - الجاهل - الذي لا تجد له فضيلة ، والأحمق الذي قلما يخلو من رذيلة"().
* الهوى وتأثيره على العقل:
الهوى من الأخلاق الذميمة ، وقد أمرنا الله تعالى في کتابه الکريم باتباع شرع الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ،والنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (){ فالهوى عند الماوردي : " يُنتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ويجعل ستر المروءة مهتوکاً ، ومدخل الشر مسلوکاً "().
تأثير الهوى على العقل:
يبين الماوردي أن للهوى تأثير بالغ على النفس، فعندما يستحکم على العقل ويسيطر عليه، يستحيل في هذه اللحظة اجتماع الحکمة مع الهوى، وتأثير ذلک من وجهين:
الوجه الأول : "يقوى سلطان الهوى بکثرة دواعيه حتى تستولي عليه غلبة الهوى والشهوات فيکل العقل عن دفعها ، ويضعف عن منعها ، مع وضوح قبحها في العقل المقهور بها، وهذا يکون في الأحداث أکثر وعلى الشباب أغلب لقوة شهواتهم وکثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم"().
يبين الماوردي في الوجه الأول ، حال الصراع بين الهوى والعقل ، وعند تغلب سلطان الهوى على العقل ، فإنه يضعف عن دفعها ومنعها ، وتصبح النفس أسيرة للشهوات ، وأکثر من يقع فريسة تسلط الهوى على العقل هم الأحداث والشباب ، وقد وردت التوجيهات النبوية للشباب بکبح جماح شهوة الجنس بالزواج ,فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : کنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"().
الوجه الثاني: أن يزين الهوى للعقل الأشياء القبيحة أنها حسنة، ويلبّس عليه سوء عمله فيرى الأعمال السيئة حسنة، والضرر نفعاً، وفي ذلک يقول الماوردي: " أن يخفي الهوى مکره، حتى تتموه أفعاله على العقل، فيتصور القبيح حسناً، والضرر نفعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين:
1- إما أن يکون للنفس ميل إلى ذلک الشيء فيخفى عليه القبيح لحسن ظنها وتتصوره حسناً لشدة ميلها.
2- استثقال الفکر في تمييز ما اشتبه, وطلب الراحة في اتباع ما يسهل حتى يظن أن ذلک أوفق أمريه وأحمد حاليه ، اغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم ، فلن يعدم أن يتورط بخدع الهوى ، وزينة المکر في کل مخوف حذر ، ومکروه عسر"().
وعلاج غلبة الهوى على العقل عند الماوردي :" أن يجعل فکر قلبه حکماً على نظر عينه ، فإن العين رائد الشهوة ، والشهوة من دواعي الهوى ، والقلب رائد الحق ، والحق من دواعي العقل"().
* فکر أبو الحسن الماوردي وأثره في الفکر الإسلامي:
إن أفکار الماوردي في الصورة العامة تمثل وستظل تمثل النموذج المثالي للحقيقة في جوهرها وفي واقعها الممتد عبر الأزل، وملامح تلک الصورة تعتبر علامات بارزة في تاريخ الفکر الإسلامي، موسومة بطابعه، تشير إلى الماوردي دائماً، وتبين موقعه على خارطة الفکر الإسلامي.
ومن أبرز ملامح الفکر العام للماوردي ما يلي:
(1) التوازن بين الدين والدنيا، فهو يقوم في کتابه أدب الدنيا والدين على هذه القاعدة، ويذکر أن " أعظم الأمور خطراً وقدراً ، وأعمها نفعاً ورفداً ما استقام به الدين والدنيا ، وانتظم به صلاح الآخرة والأولى لأن باستقامة الدين تصح العبادة، وبصلاح الدنيا تتم السعادة"().
إن صيغة التوازن واضحة جلية، توازن الدين والدنيا في صيغة تکاملية، إذ أن کلا منهما يکمل الاخر ويتممه.
(2) التکامل والتوازن بين الوحي والعقل ,وفي ذلک يقول الماوردي : " فالعقل , جعله الله للدين أصلاً، وللدنيا عاداً ، فأوجب التکليف بکماله، وجعل الدنيا مُدَبّرةً بکماله، وألف به بين خلقه مع اختلاف مذاهبهم، ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين : قسما وجب بالعقل فوکده الشرع، وقسما جاز في العقل فأوجبه الشرع فکان لهما عماد"()، فکما أن الوحي مهم، فالذي يفهم عنه هو العقل، ومن هنا أعطى الماوردي العقل أهمية وذکر أن آفة الإنسان في اتباع هواه.
(3) نظريته في التکليف الشرعي تتمثل في تقرير قدرة العباد على ما کلفوا به من أعمال، وهذا التکليف جامع نفعي الدنيا والآخرة وليس قاصراً على واحد منها ويذهب إلى ما هو أبعد من مجرد فرض التعبد والإلزام بفروض لم توجبها ضرورة أو حاجة إلهية، وإنما فرضتها نعمة إلهية، تفضلا من ناحية، ومصلحة للعباد من ناحية أخرى.
وهو يجعل مناط التکليف دائراً على ثلاثة أمور:
أ- " العقائد: فالمکلف مثبت للتوحيد وما يتفرع عنه من إثبات للصفات الإلهية، وإثبات البعثة للرسل، والتصديق بما جاء به نبي الاسلام.
ب - أوامر الله تعالى: فالمؤمن يجب أن ينصاع لما أمر الله تعالى به مما يقع على الأبدان، والأموال وعليها معا.
ج- النواهي والزواجر : مما أمر المکلفون بالکف عنه إما إحياءً لنفوسهم أو صلاحاً لأبدانهم"().
(4) نقاط الأصالة الإسلامية هي أکثر نقاط منهجه انسجاماً مع عصره، وقد ترکت أفکاره آثاراً إيجابية في مجال توحيد الفکر والعمل، وبعثت الحيوية في الأمة، التي تناوشتها الانقسامات على المستوى النظري والعملي.
(5) مع الالتزام الإسلامي فإن فکر الماوردي "منفتح على الثقافات الأخرى السائدة في عصره، فهو لم يتجاهل الجيد من الثقافة الفارسية، وکذلک الثقافة اليونانية، وعناصر الفکر الهندي، ففي فکره أمشاج من هنا وهناک، إلا أن عنصر الإسلامية أغلب"().
(6) هو مدرک لمشاکل عصره تماما، واقعي في اقتراح الحلول، لم يتجاهل المستجدات في المجالات السياسية، والاجتماعية ومع نفاذ رؤيته؛ رأى أن الأوضاع القائمة ضارة، والحل الحقيقي يکمن في الإسلام، وهو الکفيل بإصلاح الأحوال. فهذه أبرز ملامح فکر أبي الحسن الماوردي، والتي نثرها في جنبات کتابه أدب الدنيا والدين، ويصعب حصرها بالکامل، ولعلنا وقفنا على أبرزها.
التربية والتعليم في فکر الماوردي
* فضل العلم ومراتبه:
بدأ الماوردي ببيان أفضل العلوم التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها، ولا يسعه الجهل بها، وقد قسم الماوردي أفضلية العلوم إلى قسمين:
القسم الأول : " أولى العلوم وأفضلها علم الدين ؛ لأن الناس بمعرفته يرشدون ، وبجهله يضلون ، إذ لا يصح أداء عبادة جهل فاعلها صفات أدائها ، ولم يعلم شروط إجزائها "().
وهذا العلم الذي ذکره الماوردي، هو العلم الواجب على کل مسلم بالغ عاقل أن يتعلمه، فيتعلم ما أوجبه الله عليه وما حرمه الله تعالى عليه، حتى يعبد الله تعالى على علم وبصيرة.
القسم الثاني : "جملة العلم إذا لم يقم بطلبه من فيه کفاية , وإذا کان علم الدين قد أوجب الله تعالى فرض بعضه على الأعيان ، وفرض جميعه على الکفاية ، کان أولى مما لم يجب فرضه على الأعيان ولا على الکفاية"().
ويقصد الماوردي بالقسم الثاني من أقسام العلم هو بقية العلم الشرعي الذي هو من فروض الکفاية إذا قام به البعض سقط الاثم عن الباقين ، ومن ذلک قول الله تعالى:} وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {() ويدخل في هذا المعنى العلوم الدنيوية الضرورية لخدمة الأمة والمجتمع .
* ما يجب على العلماء من الأخلاق:
1- "التواضع ومجانبة العجب ، لأن التواضع عطوف ، والعجب منفر"().
2- "العمل بعلمه ، وحث النفس على أن تأتمر بما يأمر به"().
3- "أن يجتنب أن يقول ما لا يفعل ، وأن يأمر بما لا يأتمر ، وأن يسر غير ما يظهر"().
4- "أن لا يبخلوا بتعليم ما يحسنون ، ولا يمتنعوا من إفادة ما يعملون ، فإن البخل به لؤم وظلم ، والمنع منه حسد وإثم"().
5- "أن يقصدوا وجه الله بتعليم من علموا ، ويطلبوا ثوابه بإرشاد من أرشدوا ، من غير أن يعتاضوا عليه عوضاً ، ولا يلتمسوا عليه رزقاً"().
* آداب طالب العلم:
1- التودد والتلطف والتذلل للعالم : وفائدته أن العالم يظهر مکنون علمه لمن تودد إليه ، وألان له الجانب يقول الماوردي :" اعلم أن للمتعلم في زمان تعلمه ملقاً – وداً- وتذللاً ، إن استعملها غنم ، وإن ترکها ندم ؛ لأن التملق للعالم يظهر مکنون علمه ، والتذلل له سبب لإدامة صبره ، وبإظهار مکنونه تکون الفائدة وباستدامة صبره يکون الإکثار"().
2- تواضع المتعلم للعالم: بأن لا يأنف أن يتعلم العلم من صغير أو کبير، أو ممن هو دونه في منزلة الدنيا، فإن العلماء قد استحقوا التعظيم بعلمهم لا بالمال والقدرة، يقول الماوردي:" ولا يمنعه من ذلک علو منزلته
إن کانت له ، وإن کان العالم خاملاً ، فإن العلماء بعلمهم قد استحقوا التعظيم ، لا بالقدرة والمال"().
3- الاقتداء بالعلماء في علمهم وأخلاقهم حتى يألفها ، وينشأ عليها ، يقول الماوردي : "وليکن مقتدياً بهم في رضى أخلاقهم ، متشابهاً بهم في جميع أفعالهم ، ليصير لهم آلفاً ، وعليها ناشئاً ، ولما خالفها مجانباً"().
4- احترام العالم وتقديره واحتشامه والحذر من التسلط عليه ، يقول الماوردي : "وليحذر المتعلم التبسيط - ترک الاحتشام - على من يعلمه ، وإن آنسه ، والادلال – الاجتراء- عليه وإن تقدمت صحبته"().
* الفکر التربوي عند الماوردي:
يمکن أن نلاحظ أن فکر الماوردي التربوي متأثر تماما بنظرته العامة في الحياة وبنسقه الفکري، " المنتمي إلى الفقه الشافعي، والأشاعرة، الذين عبر عنهم أصدق تعبير ، وکان فکره التربوي منبثقاً عن فکرهم, ولقد أکد على أهمية تفاعل الدارس مع تيارات عصره الفکرية، ثم الوقوف على الموازين التي يزن بها هذه التيارات من القرآن الکريم والسنة الشريفة حتى يحدد موقفه عن بينة وبصيرة، وتحديد دور العقل والنقل في ميادين التفکير بأسلوب يتسق مع الأصول الکائنة في القرآن الکريم والسنة المطهرة"().
فالماوردي في تيار الفکر التربوي يؤکد النظرة الوسطية، وقد ترجم هذه النظرة إلى مبادئ وأفکار أوردها مصطفى() فيما يلى:
(1) يؤکد الماوردي على أهمية التکليف، لأن فيه وعن طريقه يُعَدّ الفرد للدنيا والآخرة، وتتحقق السعادة فيها وتأتي أهمية تربية الإنسان في هذا الإطار، وأهمية تربية العقل، وأهمية التربية على أصول الشرع وأحکامه.
(2) وفي هذا الإطار تأتي أيضا آراؤه في أهمية التربية وفهمها، وآراؤه في المنهج، فکل العلوم شريفة، لأنها تتکامل لتحقيق السعادة الإنسانية وأهمها العلوم الدينية، ومع هذا فالتخصص مهم وحسن.
(3) وتأتي آراؤه في التعليم، حيث يرى أنه لا بد من مراعاة الفروق الفردية، ويدرک أهمية التشويق والتدرج في طلب العلم، وغير ذلک من آراء تؤکد ثقب نظرة الرجل في هذا المجال.
(4) يدعو الماوردي إلى حرية الفکر وترک التقليد، ولذا نراه ينبه المتعلم - مثلا - على ألا يبالغ في احترام آراء العالم بحيث ينتهي به إلى التقليد.
(5) کل آرائه التربوية تعتمد على نظرة صحيحة للإنسان وإمکانياته، فهو يبلور نظرة للإنسان وإمکاناته ومکوناته، مما يساعد على فهم تصور الإنسان عنده، وأهداف تربيته وغير ذلک.
(6) يطرح تصوراً للمجتمع الذي هو حاضن التربية، ولا شک أن هذه التصورات تسهم في صياغة الأهداف التربوية، وتحديد شکل الإنسان المراد لهذا المجتمع.
(7) يتکلم عن نظرية المعرفة، من حيث إمکانها، وطرقها، وأهمية العقل في تحصيل المعرفة، مما يمکن اعتباره أساساً مهما من أسس التربية.
(8) يتکلم عن الأخلاق وأدب النفس، ومکارم الأخلاق، ولا تخفى أهمية ذلک بالنسبة للتربية والتعليم.
(9) إن رأيه في العالم والمعلم وإعداده وصلة العالم بالمتعلم وصلة المتعلم بالعالم، کل هذا يمکن أن تستفيد منه التربية.
إن أفکار الماوردي في هذا المجال تأتي في سياق الفکر الإسلامي الصحيح، وتعد طرحا جيدا يطل دائما على المصادر الأصلية وعلى روح الإسلام، مع الاستفادة من تجارب الاخرين، فهو نموذج جيد لطريقة التناول، ولکثير من الأفکار الرائدة.
الخاتمة
يعتبر کتاب الماوردي ـ رحمه الله تعالى ـ البغية العليا في أدب الدين والدنيا، من أفضل الکتب التي استمتعت بقراءتها، واستفدت من الأفکار والآراء التربوية والمعلومات القيمة التي نثرها الماوردي في کتابه.
فالکتاب يمتاز بسهولة عباراته، ووضوح أسلوبه، ويفهمه العالم والعامي، ولا يستغني عنه طالب العلم في تزکية نفسه وتهذيب سلوکه وأخلاقه، فما أحوجنا اليوم إلى تعلم الأدب علماً وسلوکاً، تأسياً بنبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والکتاب في مجمله يحتوي على ثروة تربوية هائلة، لا يمکن للباحث أن يحصي جميع المبادئ والآراء التربوية للماوردي في هذا البحث الموجز، فالکتاب يحتاج إلى إعادة في التحقيق والتهذيب، والتعليق على بعض الآراء والأفکار والمعلومات، وإخراجه بصورة عصرية، يسهل على الباحث والقارئ قراءته، والاستفادة من مضمون محتوياته، فجميع طبعات الکتاب لا تتوافق مع مکانة الماوردي العلمية والأدبية.
نتائج البحث:
1- أبرز الکتاب شخصية الماوردي العلمية، وسعة علمه ودقة فهمه لکتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا بدوره يعکس الحالة العلمية التي کانت في عصر الماوردي.
2- الآراء التربوية لدى الماوردي نابعة من الکتاب والسنة، واستنباطاته وآراؤه التربوية صالحة في کل زمان ومکان، ويمکن تطبيقها في البيت والمدرسة والمجتمع.
3- يحتوي الکتاب على عدد کبير من الأفکار والمبادئ التربوية، تحتاج إلى توسع في الدراسة، وتدقيق في القراءة، ويحتاج إلى جهود وتضافر العلماء والباحثين في سبيل إخراج الکتاب بصورة مشرفة تليق بعلم الماوردي وفکره التربوي.
4- إن الکتابات التربوية والأفکار التربوية والتعليمية لدى المفکرين المسلمين، ربما تأتي منفصلة، وربما تأتي منبثة في ثنايا کتبهم وتحتاج إلى قراءة متمعنة واعية.
التوصيات العلمية:
1- الاستفادة مما ورد في کتاب الماوردي البغية العليا في أدب الدين والدنيا من أفکار تربوية، وبلورتها في سلوکيات ممارسة في الحياة العلمية والعملية.
2- المساهمة في دفع التيار الفکري التربوي العام من خلال حث الباحثين والمختصين في البحث عن الآراء والأفکار والمبادئ التربوية لدى علماء المسلمين، والاستفادة من تلک الخبرات وتطبيقها في المؤسسات التعليمية.
3- إعادة تحقيق الکتاب تحقيقاً علمياً، وشرح الآراء التربوية التي تضمنها الکتاب بأسلوب عصري، يمکن للقارئ الاستفادة من الأفکار والآراء والتطبيقات التربوية المتضمنة في الکتاب.
4- ترجمة الکتاب إلى اللغات الأجنبية، ونشرها في الجامعات والمؤسسات التربوية الأجنبية لإبراز نبوغ علماءنا المسلمين الأوائل وتفوقهم في المجال التربوي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،
قائمة المصادر والمراجع:
1- القرآن الکريم.
2- ابن خلکان، أحمد بن محمد, 1972م: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
3- ابن کثير، إسماعيل بن عمر, 1977م: البداية والنهاية، ط 8 , دار الکتاب العربي، بيروت، لبنان.
4- ابن منظور، محمد بن مکرم , 1426 هـ: لسان العرب، دار الکتب العلمية، بيروت، ط1 , ج 1
5- أبو داود، سليمان بن الاشعث, 1980م: سنن أبي داود، المکتبة العصرية، بيروت، ط2.
6- أبو سليمان، عبد الوهاب إبراهيم , ١٤٣٣هـ: کتابة البحث العلمي صياغة جديدة، ط١، الرياض، مکتبـة الرشـد – ناشـرون.
7- أحمد، نصار سيد، واخرون, 1429هـ: المعجم الوسيط، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1.
8- البخاري، محمد بن إسماعيل, 1423هـ: صحيح البخاري، ط1 , دار بن کثير، دمشق.
9- جمال الدين، نادية ,1983م: فلسفة التربية عند إخوان الصفا، القاهرة، ط2.
10- خياط، محمد, 1996م: التحدي الإعلامي في مجال التربية، دراسات تربوية واجتماعية، کلية التربية، جامعة حلوان، العدد الأول.
11- الذهبي، شمس الدين محمد,1412هـ: سير أعلام النبلاء، الطبعة 8، مؤسسة الرسالة، بيروت.
12- زيادة، مصطفى عبد القادر , 1427هـ: تجديد الفکر التربوي العربي ومطالبه في القرن 21 , مکتبة الرشد، الرياض، ط3.
13- العلواني، طه ,١٩٩٢م: الأزمة الفکرية المعاصرة، المعهد العـالمي للفکـر الإسـلامي، فرجينيـا.
14- الکيلاني، ماجد عرسان: تطور مفهوم النظرية التربوية، دار ابن کثير، دمشق، 1985م.
15 - الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد, 1405هـ: أدب الدنيا والدين، الطبعة الرابعة، بيروت، دار اقرأ.
16- مصطفى، شريف,١٩٩٠م: الفکر التربوي الإسلامي، دائـرة التربيـة والتعليم، الأونروا، عمان.
17- مصطفى، علي خليل 1411هـ: قراءة تربوية في فکر أبي الحسن البصري الماوردي من خلال کتابه أدب الدنيا والدين، دار الوفاء، المنصورة، ط 1.
18- النباهين، على , 1995م: أصول التربية الإسلامية، جامعة الأزهر، القاهرة، ط1.